مرور عام على وفاة ساران ألكسندريان(عراقي الاصول)

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
21/09/2010 06:00 AM
GMT



باريس :
عامٌ مر على وفاة الشاعر والباحث السريالي الكبير ساران ألكسندريان (11 أيلول الماضي)، ومع ذلك لم نقرأ في الصحافة العربية أي خبر أو مقالة حوله على رغم أصوله العراقية التي حملها طوال حياته بفخرٍ كبير وإنجازاته الفنية والفكرية الكثيرة. طبعاً لا يحتاج هذا العملاق إلى مقالةٍ من هنا أو هناك لتأمين شهرةٍ بلغها في الغرب وهو حي (وبدون أن يسعى خلفها) بفضل نشاطه البارز إلى جانب أندريه بروتون منذ الثامنة عشرة من عمره، ولكن خصوصاً بفضل أبحاثه المرجعية في ميادين الفن السرّيالي والحلم والعلوم الباطنية والجنس والطوباويات الاجتماعية. فقط ساران ألكسندريان الروائي لا يزال دون الشهرة التي يستحقّها على الرغم من رواياتٍ خمس مهمة صدرت بين عامَي 1960 و1997 وحصدت في حينها مقالاتٍ مدحية كثيرة قبل أن تقع الواحدة تلو الأخرى في طي النسيان. وهذا ما يفسّر توقّفنا اليوم عندها للتعريف بخصوصيات كتابة ألكسندريان الروائية وبأبعادها الابتكارية والرؤيوية الأكيدة.
وفعلاً، أوّل ما يقفز إلى أعيننا لدى قراءة هذه النصوص هو جانبها المستقبلي والاختباري وارتباط الابتكار الروائي بشكلٍ وثيق فيها باستكشاف طاقات الكائن البشري الكامنة، بعد تصفية ذهنه من الأفكار والمعتقدات الموروثة، وذلك من منطلق أن المستقبل هو فضاءٌ مفتوح ويمكنه أن يكون مشعّاً وساطعاً، وأن العالم الظاهر هو غير ذلك الذي نظنّه.
كثيرون من النقّاد الذين توقّفوا كتابةً عند هذه الروايات لم يترددوا في تصنيفها داخل النوع الروائي الذي يُعرف بالعلم الخيالي (science-fiction)، في حين أن صاحبها تخطّى فيها هذا النوع وقلب في طريقه جميع الأنواع الروائية المعروفة لسعيه ونجاحه في تشييد مشروعٍ أدبي قائم على قناعةٍ بصيرة مفادها أن البشرية على عتبة تحوّل عميق وأن دور الكاتب يقع في تخيّل هذا التحوّل مسبّقاً. وإن دافع في روايته الأخيرة، "الفيلسوف الفلكي الكبير" (1994)، وعلى لسان بطلها بوبلان، عن العلم الخيالي فلأن المخيّلة في الأدب أصبحت مادة نادرة وثمينة ولأن النوع الروائي المذكور هو الفضاء الواسع الوحيد المتوفّر لها، بينما تنتمي هذه الرواية في الواقع، مثل الروايات السابقة، إلى مزيجٍ من ثلاثة أنواعٍ روائية على الأقل: العلم الخيالي طبعاً، ولكن أيضاً الرواية البوليسية والرواية الإباحية؛ مزيجٌ حديث يقع على أبعد مسافة ممكنة من الواقعية التي انقضّ عليها بروتون في "البيان السرّيالي"، لخروج عملية السرد بسرعة داخله من الزمن العادي.
طبعاً، ثمّة عناصر سردية ووصفية كثيرة تقرّب روايات ألكسندريان من العلم الخيالي، كما في نصّه الأخير الذي نتابع فيه سفر أبطال هذه الرواية إلى قمر "غورسال" الذي يدور حول كوكب المشتري، ثم نتعرّف فيه بالتفصيل على طريقة عيشهم هناك. لكن القارئ البصير يلاحظ بسرعة أن المسألة تتعلّق أقل بعلمٍ خيالي منه بأحلامٍ نلتقي فيها مثلاً بديكارت على كوكبٍ آخر وقد أصبح فيلسوفاً واسع الخيال بعدما تخلّص من عقلانيته المفرطة، أو بالفيلسوف الاشتراكي الطوباوي شارل فوريي أو بوجوهٍ فكرية كبيرة أخرى يستحضرها ألكسندريان لاستخلاص فلسفةٍ عميقة تسمح "بتحديد الأقدار" وباكتشاف عوالم جديدة، كما في رواية "ديكونسرتو" (1980)، أو عالمٍ سفلي موازٍ لعالمنا، كما في رواية "خطر حياتي" (1964)، أو حتى منطقة المتوسّط بعد جفاف البحر، كما في رواية "بيضة العالم" (1975). وبذلك تتحول جميع رواياته إلى مغامرات ذهنية، ولكن أيضاً إلى عملٍ يضع قبل أوانه فكراً قائماً على استثمار ذلك التواصل المكتشَف بين ميادين علمية وفلسفية وأدبية متجاورة، بهدف ملامسة المستقبل.
مضاد
وفعلاً، يستشف قارئ روايات ألكسندريان خطاباً مضاداً وفاعلاً في جميعها يعاكس خطاب الأخصّائيين والعلماء ويعيد إحياء الحلم بتحكّم الإنسان بقدره، وفقاً لخطوط أمل تأخذ المجازفة والمشكوك به والصدفوي كعناصر معرفة ضرورية. والهدف إعادة ابتكار السعادة البشرية من خلال نقد اجتماعي لاذع بواسطة القصة الخرافية، واقتراح طوباوياتٍ بديلة. وفي هذا السياق، لا يتردد ألكسندريان في الظهور داخل رواياته كشاهدٍ ولكن أيضاً ككاتبٍ، من منطلق أن هذا الأخير يصعد على خشبة التاريخ وبالتالي يمكنه إسماع صوته وأخذ موقف من أحداث العالم التي تصنعها تياراتٌ كبرى. فعلى رغم جرأة تشييدها ومتانة حبكتها الخرافية، لا تهمل هذه الروايات حقوق الأنا التعبيرية، بل نجدها مكتوبة بشحنة عاطفية قوية، وبجسد الكاتب برمّته وليس فقط بيده. أكثر من ذلك، يستخدم هذا الأخير النمط التعبيري الرمزي لطرح آرائه وأفكاره الخاصة، كما تعكس مغامرات أبطال رواياته مضموناً أكثر شخصية من مجرّد تمثيلٍ عام لمسيرة البشر.
وإذ تعج هذه الروايات بأماكن ومجتمعات طوباوية مختلفة، إلا أن الطوباوية الرئيسية فيها هي القراءة بالذات، أي ذلك الفضاء المشيَّد لقارئ الروايات، كما في رواية "بيضة العالم" التي تشكّل استعارة واضحة للعمل الروائي. ولا عجب في ذلك أيضاً، فألكسندريان الذي نشأ وكبر في عالمٍ بعيدٍ عن موطن ولادته وجد سعادةً كبرى في تلك العلاقة المنفردة مع خيال الكلمات والصور فشكّلت أرضية الخرافة "المكان الحقيقي" الذي ترسّخ فيه، كما شكّلت القراءة، أو الكتابة، بالنسبة إليه خروجاً من الواقع ودخولاً إلى مكانٍ آخر، إلى "أراضي الحلم الثرية" (عنوان إحدى رواياته)...
وحول تقنيات كتابته الروائية، لا يمكننا عدم الإشارة إلى استخدامه غالباً حالة النُوام (أو التنويم المغناطيسي الذاتي) لبلوغ توتّرٍ ذهني عالي وبالتالي هلوسات وتخيّلات مثمرة، وهي تقنية لا بد من وضعها في علاقة مع التقنيات التي استخدمها السرّياليون الأوائل لتعزيز القدرة الرؤيوية وفصّلها ألكسندريان في بحثه الشهير "السرّيالية والحلم"، مع ضرورة الإشارة إلى ميله إلى الكلام الشعري المنبثق من الحالة المذكورة. وفي هذا السياق، يمكننا تأمّل مشاهد رواياته كصورٍ حُلُمية غنية بالمجازات وقابلة للتفسير بواسطة علم التحليل النفسي. وثمّة تقنية كتابية أخرى مشابهة اعتمدها أيضاً هذا العملاق وتقوم على تأجيج الغريزة الجنسية للاستفادة من طاقتها، وعلى لجم هذه الغريزة والتحكّم بها بدلاً من إشباعها، لبلوغ نشوة المخيّلة أو "ليل البروق" الذي تحدّث عنه بروتون، الأمر الذي يفسّر الجانب الماجن لمشاهد كثيرة في رواياته.
باختصار، نظر ألكسندريان إلى الكتابة الروائية كممارسة سحرية يتم فيها استخدام المصادر النفسية بشكلٍ عميق وضمن توتّرٍ يسمح بتجاوز حدود الكائن البشري.